المنهجِ الصحيح لأهل السنة والجماعة في حكم الخروج على الحاكم
خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم
......... في أجواء الظلم توضع الأمور في غير مواضعها، وتقع الأشياء في غير مواقعها، فيعظّمُ الحقيرُ، ويمجّدُ الوضيع، ويوسدُ الأمر إلى غير أهله، وحينئذ تعاني الأممُ الأمرينِ من أحكام الجاهلية ومسالكها، وما استساغ أحدٌ الظلم إلا لظلمة في قلبه ودخلٍ في طويته وخللٍ في نفسه: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
فالظالم يمتطي سفينة الغفلة، فيردُ موارد الهلاك، يتجرأُ على حقوق الآخرين ليقضي مآربه، دعتهُ قوتُه وجاهه وماله ونفوذه ليتجاوز الحدود، ويعتدي على الحقوق، غفل عن الوقوف بين يدي جبار السماوات والأرض, فاستبد في ظلمه وطغيانه, لكن عاقبته الحسرةُ والندامة والذلة والمهانة في الدنيا والآخرة، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
وقد حرم الله الظلم على نفسه وحرمه على جميع خلقه، فقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)).
.... ومع تعاظمِ الظلم ووقوعهِ على بعض الشعوب والمجتمعات تئنُّ من وطأته الخليقةُ, فيشتكي الناسُ إلى بعضهم, ويطلبون الفرج بشتى الصور, وقد ينادي البعضُ بالحرية ورفع الظلم عن طريق الانتحار وإحراق الأنفس , ويُنادي بالخروج على السلطان, بالقيام بالهتافات والمسيرات التي تنادي بإسقاط الحكام والولاة التي تشاهدُ اليوم في بعض بلاد المسلمين, دون معرفة العواقب والمآلات؛ مما قد ينتجُ عنه كثيرٌ من المنازعات والمصادمات وإراقة الدماء وسلب الأمن وانتهاب الممتلكات وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل, وتشفي تلك التصرفات صدورَ الأعداء المتربصين ببلاد المسلمين الدوائر, مما قد تُسبب تلك الاضطراباتُ تدخُّل الأعداءِ في بلاد المسلمين, فينتجُ عن ذلك ما لا تحمد عقباه.
.....، إن المناداةَ بالخروج على الحكام ناتجٌ عن قلة العلم وانتشار الجهل وعدم النظر في العواقب, فيجب علينا في مثل هذه الظروفِ والحالات العصيبة التي تمرُّ بالأمة معرفةُ المنهجِ الصحيح لأهل السنة والجماعة في حكم الخروج على الحاكم, دون تغليبِ وتحكيم العاطفة والهوى, فقد قال .ص."خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم". قال الراوي: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم ؟ قال: ((لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة, وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة)) رواه مسلم.
....ولهذا كان المشهورُ من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي .ص. لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفسادِ الحاصلِ بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فيُدفعُ أعظمُ المفسدتين بالتزام أدناهما، ولعله لا يكادُ يُعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطانٍ إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظمُ من الفساد الذي أزالته".
و قد جاء في السياسة الشرعية – ابن تيمية - : (إن السلطان ظل الله في الأرض)، ثم قال: "ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل رحمهما الله وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان". إلى أن قال رحمه الله: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يُتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
ورحم اللهُ الإمامَ أحمد بن حنبل الذي رفض الخروج على المأمون وهو الذي فرض على الناس بدعةَ القولِ بخلقِ القرآن، وقال لمن استفتاه في الخروج على ولي الأمر: "سبحان الله! الدماء الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمرُ به، الصبرُ على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة، تُسفك فيها الدماء"، قال له السائل: والناسُ اليومَ في فتنة يا أبا عبد الله! قال: "وإن كان، فإنما هي فتنةٌ خاصة، فإذا وقع السيف عمت الفتنة وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينُك خير لك". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برٌ أو يُستراح من فاجر"، وقال: "ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار".
والحجاج بن يوسف الثقفي قد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والإسراف في سفك الدماء وانتهاك حرمات الله، وقتلَ من قتل من سادات الأمة, كالصحابي عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهم من أفاضل الصحابة والتابعين, ومع ذلك لم يتوقف أحدٌ من أهل العلم من كبار الصحابة كعبد الله بن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين في طاعته والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته, ولم ينازعوه, ولم يقاتلوه, واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة, وقال عبد الله بن المبارك: "إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا".
كم يدفع الله بالسلطان معضلة في ديننا رحمة منا ودنيانا
لولا الخلافة لم تــــــأمن لنـــــا سبلٌ وكان أضعفُنا نهبًا لأقوانا
وعلى هذا -عباد الله- يعتبر ما قام به كثيرٌ من الشباب اليوم في بعض بلاد المسلمين من منازعة الحاكم ومحاربته والخروج عليه قياسًا منهم على بعض البلاد التي لا تقام فيها الصلاة, يُعتبر ذلك مصادمةً للنصوص الكثيرة المستفيضة الواردة في طاعة السلطان، وأيضًا مصادمةً لأقوال وأفعال سلف هذه الأمة المباركة وعلمائهم. وعندما وقعت بعضُ الأحداث المشابهة في زمن كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم السابقين واللاحقين إلى وقتنا المعاصر لم نسمع منهم إلا التأكيد الشديد على عدم الخروج على ولي الأمر، فلماذا لا يقتدي أولئك الشباب بمن مات من العلماء فهو أبعدُ عن الفتنة إن كانوا لا يثقون بالعلماء الأحياء؟!
... وتحريمُ الخروجِ على السلطان لا يمنعُ من مناصحته بالمعروف, والمطالبة بإصلاح بعض الأخطاء بالطرق السلمية الصحيحة, بعيدًا عن المواجهة وإراقة الدماء, قال العلامةُ ابنُ مفلحٍ رحمه الله: "ولا ينكرُ أحدٌ على سلطانٍ إلا وعظًا له وتخويفًا أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب ويحرمُ بغير ذلك، ذكره القاضي وغيره".
"وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".